علم الحديث

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد: فإن علم الحديث لا يستطيع المتكلم أن يفي بمهماته ومقاصده، لا بكلمة، أو كلمتين، أو ثلاث، ولا شريط، ولا شريطين، ولا ثلاثة، لكن الذي يشتغل في علم الحديث تبدو له أشياء وأشياء. من تلكم مسألة ما إذا اختلف العلماء في راو في توثيقه وتجريحه، وهذه المسألة يدندن بها المقلدة ودعاة التقليد، فيقولون: المحدثون ما تركوا أحدا إلا وطعنوا فيه، وليس الأمر كذلك، فإن كثيرا من أئمة الحديث لم يتكلم فيهم، ثم ليس كل كلام يكون معتبرا.

أي إذا اختلفوا في الراوي ومنهم من يجرحه، فإن كان الجرح مفسرا أخذ بالجرح المفسر، لأن الجارح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل، فمثلا رجل يقول: فلان محدث. وهو سني من أهل السنة ويفهم، فجاء آخر ممن يعتمد قوله وقال: هو كذاب. فالذي حكم عليه أنه كذاب اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل، فعنده زيادة يجب الأخذ بها، ثم بعد ذلك ينظر.

إذا لم يكن الجرح مفسرا ينظر في الموثق، والمجرح، فيخشى أن يكون جرحه بما لم يكن جارحا، وأئمة الجرح والتعديل منهم المتشدد ومنهم المتوسط، فقد ذكر العلماء من المتشددين شعبة، ويقابله: سفيان الثوري وهو من المتوسطين، ومنهم أي: المتشددين يحيى بن سعيد القطان، يقابله عبدالرحمن بن مهدي من المتوسطين، ومن المتشددين أيضا يحيى بن معين، ويقابله أيضا أحمد بن حنبل من المتوسطين، ومن المتشددين أبوحاتم، ويقابله البخاري من المتوسطين. فإذا عدل المتشدد في الجرح عضضت عليه بالنواجذ، فهو لا يعدل إلا عن تثبت، كذا من الموثقين من هو متساهل كابن حبان، وشيخه ابن خزيمة في توثيق المجاهيل، والعجلي كذلك في توثيق المجاهيل، فمنهم من هو متساهل في التوثيق.

ودراسة أحوال المحدثين من الأمور المهمة، حتى تعلم من المتشدد منهم ومن المتساهل. بل دراسة حال المؤلف الذي تقرأ في كتابه من الأمور المهمة ماذا عن عقيدته؟ وماذا عن تساهله في الجرح والتعديل؟ وهكذا أيضا اختلاف الأحاديث والمترجمين. هذا وقد ذكر الحافظ الحازمي -رحمه الله تعالى- في كتابه «الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار» جملة من المرجحات، وشروح الحديث التي تعين على المرجحات مثل «فتح الباري» وغيره من الكتب التي اهتمت بهذا، ومثل كتب العلل تعين على المرجحات.

ومما ينبغي أن يعلم أن من الكتب التي يستفاد منها في علم الحديث كتب الشيخ ناصر الدين الألباني، لا ينبغي لطالب علم أن تخلو مكتبته من كتب الشيخ ناصر الدين الألباني غير مقلد له في المسائل التي يستنبطها. أما إذا قبلت قوله في التصحيح والتضعيف فهو ثقة، لك أن تقبل قوله، وإذا احتطت لنفسك وبحثت عن الحديث وعن صحته وعن ضعفه فهو أفضل، وإن قبلت حكمه على الأحاديث فذاك، أما استنباطه وفهمه من كتب الحديث كغيره من العلماء، فإننا نستعين بالله سبحانه وتعالى، ثم بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين وأئمة المذاهب وغيرهم من المؤلفين.

فمثلا كتاب «المجموع» للنووي وكتاب «المغني» لابن قدامة وغيرهما من كتب الفقه لا ينبغي أن تخلو مكتبة طالب علم منهما، لكن الاعتماد على ما في كتاب الله، وعلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهكذا «المحلى» لأبي محمد بن حزم يعتبر كتاب فقه، وكتاب جرح وتعديل، وكتاب تصحيح وتضعيف، وكتاب ردود على أباطيل، فأنصح كل طالب علم أن يقتنيه، ويحذر من بعض تصحيحاته أو بعض تضعيفاته لبعض الأحاديث. ثم أيضا يحذر من تهجمه على العلماء، التهجم الذي فيه مجازفة غير مقبول من أبي محمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فربما تحامل على الإمام مالك، أو على أبي حنيفة، أو على غيره من الأئمة. نستفيد من كتابه، أما تحامله فلا. وكذلك لا يعتمد عليه في الأسماء والصفات فإنه أول كثيرا منها.

ومسألة التقليد إذا كنا نقول: الأئمة -رضوان الله عليهم- كمالك والشافعي وأحمد لا يجوز أن يقلدوا، فكذلك لا يقلد الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- وكتابه «الإحكام في أصول الأحكام» يعتبر من أحسن كتب أصول الفقه، وكتب أصول الفقه تقول: هذا جائز، وافعل ولا تفعل، وهذا يقتضي الوجوب، وهذا يقتضي الإباحة إلى غير ذلك، وقليل ما يأتون بالأدلة بخلاف أبي محمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فإنه يذكر الأدلة من كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع التصحيح للتي هي صحيحة، والتضعيف للأحاديث التي لا يراها صحيحة، وهو في مسألة التصحيح والتضعيف كغيره من العلماء، ونقله حجة. أما في فهمه فكغيره من سائر العلماء الذين نستفيد من أفهامهم، ولا نقلدهم، لأن التقليد حرام.

ولا يجوز لمسلم أن يقلد في دين الله، حتى ولا العامي يسأل عن كتاب الله وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والعامي ممن يشمله قول الله تعالى: ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون(1) ومما يشمله قوله تعالى: ﴿وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(2) وممن يشمله قوله تعالى: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(3) فهل العامي ممن تشمله هذه الأدلة أو ممن لا تشمله؟ فلماذا يقولون العامي يقلد؟ العامي ممن يشمله قوله تعالى: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا(4).

العامي ينبغي أن يعلم، وأن يذهب إلى العالم يستفتيه: ما حكم الله في هذه المسألة؟ ثم يذكر له الدليل، فإن فهم العامي فذاك، وإن لم يفهم ذكرت له حكم الله في هذه المسألة، وبحمد الله أننا نجد كثيرا من العامة الذين بعضهم يشتغل في صناعة البلوك والآجر ويشتغل حمالا، ويشتغل مزارعا، أنواع من أنواع المهن التي يزاولها كثير من العامة ثم هم يسألون عن الدليل، وهم الذين يعجزون المخرفين، رب زارعي حرث وهو يقف أمام المبتدع: ما دليلك على هذه المسألة؟ ماذا يقول المبتدع؟ يقول: ما أتعبنا إلا الدليل، وما أعجزنا إلا الدليل. فأنا أنصح كل مسلم بمطالبة الدليل.

أنأ أسالكم -إخواني في الله- العامة أكثر أم أهل العلم؟ العامة، فلماذا نفرط في الكثرة الكاثرة ونتركهم فريسة للشيوعية، وللبعثية، والناصرية، ولأعداء الإسلام؟ لماذا لا نربطهم بكتاب الله، وبسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ ونعلمهم أن الله افترض عليهم طلب العلم، والرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» هل قال إلا العامة؟ فلم يقل: طلب العلم فريضة على كل مسلم إلا العامة، والرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، هل قال إلا العامة؟

نترك الكثير من أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، بل نصرخ بين ظهرانيهم أنهم متعبدون بكتاب الله، ومتعبدون بسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حتى يشعروا بأنهم مسؤولون عن هذا، ويطالبون من يحتفل بالموالد، ومن يدعو غير الله، ومن يتمسح بأتربة الموتى، ويطالبون أصحاب الحروز والعزائم، بالأدلة.

وماذا تكون أيها الداعي إلى الله في المجتمع؟ والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يحضر خطبه العامي والعالم والجاهل، وكان يقول في كثير من المجالس: «رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها».

ويقول أيضا في كثير من المجالس: «ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقه ليس بفقيه» يحث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على التبليغ.

هذا شأن المسلم، وشأن الداعي إلى الله، ألا يخص بدعوته طبقة من الطبقات، والرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول الله له: ﴿قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا(5) فهو رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى المكلفين جميعا، وليس مقصورا على فلان وفلان، كما هو شأن بعض الدعوات، وكما هو شأن دعاة التقليد، ودعاة الضلال، فإن كثيرا من دعاة الضلال يهمهم جدا أن تبقى الشعوب عمياء، من أجل ما إذا دعوا إلى الشيوعية باسم ماذا؟ باسم العدالة، وإلى اشتراكية باسم العدالة، استجابوا، وإن دعوا إلى تبرج وسفور باسم الحرية، وإلى بنوك ربوية من أجل الاقتصاد استجابوا، وإن دعوا إلى أي شيء باسم الفساد استجابوا.

يجب أن نتقي الله في العامة وأن نشعرهم بأنهم مسؤولون عن كتاب الله وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

ومما ينبغي للباحث أن يستفيد منه، كتب الفهارس، لكن كتب الفهارس أخي في الله متى ترجع إليها؟ إذا كنت مستعجلا أو ليست لك بصيرة في البحث، أما إذا كنت تريد أن تبحث، فأنا أنصح كل أخ بالبحث، قبل أن يرجع إلى كتب الفهارس فرب مسألة تبحث عنها، أو رب مسألة تعثر عليها، أحسن من المسألة التى تبحث عنها، وربما تبحث عن حديث ضعيف، فتجد في المسألة آية قرآنية قد استدل بها العلماء على ذلك الحكم، أو تجد حديثا صحيحا في «صحيح البخاري»، أو تجد شاهدا لذلك الحديث الذي تبحث عنه إلى غير ذلك. فمن استطاع أن يبحث في كتب علمائنا المتقدمين فليفعل، ومن لا، فلا بأس أن يرجع إلى كتب الفهارس، وقد اهتم بها في هذا العصر، والحمد لله.

بقي أمر نبهنا عليه، وهو مسألة المصطلح للباحث، ولمن يريد أن يستفيد من كتب السنة، لأنه يمر بك في بعض الأحاديث حديث منكر، وفي بعض الرواة منكر الحديث، ويمر بك في بعض الأحاديث: معضل، أو حديث منقطع، أو حديث مرسل، أو حديث شاذ إلى غير ذلك من الألقاب التي تمر بك، وأحسن كتاب هو «مختصر مقدمة ابن الصلاح» للحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ممكن أن تكتفي به، وإن كنت تريد التزود رجعت إلى أصله، وهو كتاب «المقدمة» لابن الصلاح، وإن كنت تريد أن تتزود فارجع إلى أصولها وهو «الكفاية» وكتاب الرامهرمزي «المحدث الفاصل» إلى غير ذلك من الكتب التي سيشير إليها أو يعزو إليها ابن الصلاح.

أما ألفاظ الجرح والتعديل فـ«الرفع والتكميل» للكنوي(6) مع الحذر من تعصبه، وهو حنفي جامد يتعصب لأبي حنيفة، ويحمل على شيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى الشوكاني، وغيرهما من أئمة أهل السنة. ماذا تستفيد من كتابه؟ تستفيد ألفاظ الجرح والتعديل، وماذا يعني بها العلماء؟ وتستفيد بيان مقاصدهم، أما حملاته على أئمة الهدى فلا تقبلها، وهكذا ترويجه وتزيينه للمذهب الحنفي، فإن المذهب الحنفي يعتبر أبعد المذاهب الثلاثة عن كتاب الله، وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لست أقصد أنه ليس له صلة بالكتاب والسنة، أقصد أنه أبعد المذاهب الثلاثة عن الكتاب والسنة، حتى قال بعض العلماء: إذا أردت أن تصيب الحق فخالف أبا حنيفة، والحافظ الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله تعالى- ذكر جزءا كبيرا من المجلد الرابع من كتاب «المصنف» فيما خالف فيه أبوحنيفة الحديث، وأبوحنيفة عالم من علماء المسلمين، ولكنه التقليد فكن على حذر من تقليده، ومن تقليد غيره، فقد أدى التعصب ببعضهم إلى أن يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من أجل التعصب لأبي حنيفة فقد قيل لبعضهم: ألا ترى مذهب محمد بن إدريس كيف قد انتشر في البلاد، قال: لأخزينه، حدثني فلان عن فلان عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: «ليأتين رجل من أمتي وهو أضر عليهم من إبليس، اسمه محمد بن إدريس، وأبوحنيفة سراج أمتي وأبوحنيفة سراج أمتي وأبوحنيفة سراج أمتي?» فتعصب شديد عند الأتباع، وننصح كل أخ أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه. وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_______________________

(1) ? سورة الأعراف، الآية: 3.

(2) ? سورة الحشر، الآية: 7.

(3) ? سورة النور، الآية: 63.

(4) ? سورة الأحزاب، الآية: 36.

(5) ? سورة الأعراف، الآية: 158.

(6) ? ولأخينا أبي الحسن كتاب قيم في هذا «شفاء العليل».


المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح
  • عنوان الكتاب: المقترح في أجوبة أسئلة المصطلح
  • تاريخ الإضافة: 13 رجب 1426هـ
  • الزيارات: 158870
  • التحميلات: 16389
  • تفاصيل : الطبعة الثانية دار الآثار-صنعاء
  • تنزيل: اضغط هنا للتنزيل  zip

فهرس الكتاب

تفريع الفهرس | ضم الفهرس